ماهي الفراسة

ابحث على الإنترنت أو في صفحات الكتب وستجد تعاريفا عديدة للفراسة، وعلى اختلاف صيغها إلا أنها تفيد نفس المعنى تقريبا: الفراسة بكسر الفاء هي الاستدلال بالظواهر على البواطن. وهي علم قديم اشتهر به العرب وله أنواع، منها فراسة الأطباع وفراسة الأنساب وتقفي الأثر وغيرها. ولست ضد هذه التعاريف الشائعة لكنني أرى أنها لم تُصب المعنى بدقة. وافتقرت لأهم ركن من أركان التعريف وهو رسم الحد الفاصل. فالطبيب مثلا يقيس حرارة المريض ليجده محموما، وغير الطبيب قد يرى رجلا رث الثياب وهزيلا فيعلم أنه فقير وهذه أمثلة على ”الاستدل بالظواهر على البواطن“ فهل هي أمثلة على الفراسة أيضا؟ كلا. هذا ما أعنيه بأن على التعاريف أن تخرج كل ما ليس فيها منها، وبذلك يحسن المُعرِّفُ الدلالة على المُعَرَّفِ.

تعريفها الدقيق

نشأت في أسرة تتوارث معارف الفراسة جيلا بعد جيل. فنبت عندي شغف بها من الطفولة وقرأت وبحثت في أمرها باستفاضة وأحسب والله أعلم أن أدق تعريف وجدته لها كان الذي صاغه الجاحظ: واجب على كل حكيم أن يحسن الارتياد لموضع البغية، وأن يتبين أسباب الأمور، ويمهد لعواقبها. فإنما حمدت العلماء بحسن التثبت في أوائل الأمور، واستشفافهم بعقولهم ما تجيء به العواقب، فيعلمون عند استقبالها ما تؤول به الحالات في استدبارها. وبقدر تفاوتهم في ذلك تستبين فضائلهم. فأما معرفة الأمور عند تكشفها، وما يظهر من خفياتها. فذلك أمر يعتدل فيه الفاضل والمفضول، والعالم والجاهل.

وردت هذه القطعة في كتاب الرسائل السياسية. وسنكتب لاحقا كيف أن السياسة بلا فراسة وبال على صاحبها وأن هناك الكثير من النصوص
في التاريخ التي تربط بينهما ارتباطا وثيقا. لكن لنوضح أولا كيف أصاب الجاحظ معنى الفراسة بدقة دون أن يعمد إلى تعريفها:

  • الفراسة حكمة /معارف تستشف بها الأمور بالعقول وليس بالحواس فقط.
  • بالفراسة تُعرف عواقب الأمور عند استقبالها وليس بعد تكشفها.
  • أن القدرة على التفرس متفاوتة بين الناس وأن أعلاهم قدرة أعلاهم فضلا.
  • أن المعرفة بعد التكشف أمر يستوي فيه العارف والجاهل – أي ليست من الفراسة.

هل الفراسة علم؟

كثيرا ما يلقى علي هذا السؤال. والجواب هو نعم. الفراسة علم والفرع منها الذي يعنى بدراسة أطباع الناس وأخلاقهم يندرج تحت العلوم الإنسانية إذ أقرب ما يكون إلى علم النفسياء – الاشتقاق الصحيح لعلم النفس-. اشتهر العرب بها وفي تاريخ الخلفاء الراشدين علي وأبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم قصص عجيبة عن الفراسة سنذكرها في هذا القسم. وقد عكف على دراسة الفراسة والتأليف فيها علماء المسلمين كابن القيم الجوزية، والشافعي، والفخر الرازي، والفارابي، وابن سينا، وابن رشد، -وسنكتب فيهم أيضا. أما غير العرب من الشعوب فقد عرفوها وكتبوا فيها وارتبطت في تاريخهم ارتباطا وثيقا بالطب وعلم التشريح والأعضاء.

الفراسة في الشريعة الإسلامية

هناك نوعين من الفراسة: الفراسة الربانية وتلك تكون على قوة الإيمان فمن كان إيمانه أقوى كانت فراسته أقوى. وتلك وردت فيها نصوص شرعية من القرآن (أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها ). ومن السنة في الحديث الشريف (اتقوا فراسة المؤمن فإنه يرى بنور الله). وهذا النوع من الفراسة لا يدرس لأنها نور يقذفه الله في قلب عبده يفرق به بين الحق والباطل. ثم هناك الفراسة الإنسانية/الخلقية وهي التي كتب عنها العلماء وتراكمت فيها الخبرة البشرية. ويجري عليها مايجري على الطب من تقدم وتطور. وستكون مانكتب عنه بتركيز في هذا القسم من المدونة.

لماذا يكذبها البعض؟

من المؤسف جدا أن تجد كثيرا من أبناء العرب يكذبون هذا الفرع من العلوم ويزردونه مع أن العرب رواد هذا العلم، ووضعوا فيه أنفس الكتب التي إن بحثت عنها اليوم لن تجدها محفوظة إلا في متاحف دول غير عربية يترجمونها لمختلف اللغات. ومن المؤسف أكثر رؤية عشرات النماذج من الدجالين ينشرون أكاذيب لاتمت للفراسة بصلة بصفتهم نخبة العلماء حتى وصل الحال ببعضهم أن يتقاضوا أموالا مقابل تحليل صور الناس. إن هذا الخلط شائع جدا عند العوام. أما المطلع فيعلم أنه شتان مابين علم الفراسة الحق وبين طرائق التخمين والظنون التي تنسب إليه بلا دليل.

الفراسة لاينتفع بها بليد

وذلك لأنها تعتمد على جودة ذهن المتفرس، وذكاءه وحدة فطنته.

الفراسة مقابل التنميط أو التوسيم

التنميط/التوسيم قسم من أقسام الفراسة. يهدف إلى استنباط سمات مشتركة بين الناس. وسنتكلم عنه باستفاضة في تدوينات لاحقة.

الفراسة معمول بها

سواء انتبهنا لذلك أم لا الفراسة معمول بها في أرض الواقع. كثيرا ما تستوقفني الأمثلة التي تتجلى فيها الفراسة بشكل واضح منها هذه الأمثلة:

في الحياة اليومية

في المشاريع الجماعية في المدرسة، كان أحد الزملاء ينتقي من ينضم للمجموعة. وعندما أسأله لماذا اخترت فلان؟ ولم منعت فلان؟ فيجيبني أن فلان سيشكل عبئا ولن يسهم بالكثير. أما فلان فنحتاجه ليراجع عملنا. وكنت أتعجب حس فراسته النبيه جدا دون أن يكون ممن يقرأ بنشاط في المجال. والعجيب في أمره أيضا أنني لم أنجح في تشجيعه للقراءة عن هذا العلم. كان علي أن أثق بالعلامات الكثيرة حوله التي أخبرتني بأنه لا يصغي إلا لحدسه الداخلي.

في كتب الاستراتيجيات والتخطيط

وكتب القيادة عموما تزخر بالتوصيات والنصائح على تقوية حس الفراسة والتعامل مع الأخرين. لأنها نافعة جدا للقادة. من العبارات الشهيرة في كتاب فن الحرب : ’’إذا كان خصمك سريع الغضب فأغضبه دعه يمتلأ غيظا“ لأن الإنسان إذا اغتاظ لا يزن الأمور بحكمة فيكثر سقطه ويسهل التغلب عليه.

في الطرح الأدبي والأعمال الترفيهية

في الأشعار والخطب والروايات الاجتماعية نماذج لا تحصى على استعمال الفراسة وتوسيم الشخصيات لبعضها البعض. بل حتى الأعمال الترفيهية الخيالية كانت شاهدا حيا على ذلك عبر التفريق بين شخصيات العمل الفني وإلباس كل منها دوره المناسب. كان مؤسس والت ديزني يرفض كثيرا من النماذج الأولية لتصاميم الشخصيات لأنه لا يراها مقنعة بما يكفي. فعلى الشخصية الشريرة أن تبدو شريرة فعلا وإلا لن تكون ذات مصداقية وتقبل لدى الجمهور.

ختاما

هذه أول تدوينة وضعتها تقديما لقسم الفراسة والتنميط الذي أهدف من خلاله إلى:

  • التعريف بهذا العلم وإسهامات العرب والمسلمين فيه.
  • جمع آثاره من كتب ومقالات أو قصص وتدوينها.
  • مقارنة أطروحات الفراسة عند باقي الشعوب.
  • استعراض نظريات التفرس الحديثة.

المراجع

  • مدارج السالكين لابن القيم
  • الفراسة للفخر الرازي