بوسع الجميع أن يرسموا متى ما أرادوا
لست بحاجة لإطالة النظر في هذه الصورة لأميز رجلا في يده ورقة ومرسام وتلوح على وجهه نظرة ملؤها الإيجابية. هذا هو آرثر كوبتيل، أكثر رسام مبدع قرأت له في حياتي. ولا يكمن إبداعه في قدراته الفنية فحسب بل بأسلوبه العجيب في الكتابة والذي يقرب الرسم ويبسطه لكل متلقٍ. شتان ما بين امتلاك المعلومة والقدرة على إيصالها للآخرين، وشتان ما بين القدرة على إيصالها فقط وإيصالها بأمتع وأرسخ أسلوب. آرثر، بفضل ملكته العجيبة في الكتابة امتلكت له عشرات الكتب وأدين له بالكثير من المعلومات والمعارف القيمة. إن أعظم معلومة استفدتها من آرثر هي عبارة قصيرة وقوية جدا تقول:
بوسع الجميع أن يرسموا متى ما أرادوا.
قبل أن أغوص أكثر في توضيح قوة هذه المقولة. سأتكلم عن الكتيبب الصغير الذي وردت فيه ألا وهو هواية التسواد | Sketching as a Hobby
التِسْواد أو التسويد أو الخُطاطْ بالعربية هو الرسم باستعمال خطوط أولية خشنة على سبيل التجريب أو توليد الأفكار في الموضوع المراد رسمه ويكون عادة بلون الرصاص، يليه التبييض والذي تحسم فيه الصورة النهائية للعمل الفني ويقدم في خطوط ملونة ناعمة ونظيفة. في مدونتي، سأستعيض بكلمة تسواد مكان مفردة Sketch أو デッサン عند النقل من مصادر غير عربية.
هواية التسواد
لن أروج للكتاب بأكثر من نسخ المقدمتين: الأولى كتبها صديق حميم للمؤلف قال فيها : ’’سواء كنت قرأت هذا الكتاب أم لا فإنني سأوصي به بشدة لكل من لديه أدنى درجات الاهتمام بالرسم أو بتطوير فهمه وتقديره للفنون التصويرية. إن ثقتي هذه نابعة من قربي الوثيق بالمؤلف آرثر كوبتيل وأعماله. فلقد كان من وافر حظي أن تعلمت على يده و كسبت صداقته. أعلم جيدا أنه إن كان في صف يدرس المبتدئين أو المتقدمين، أو كان في متحف استعراضي للأعمال الفنية، أو كان يصمم مخططا هندسيا لأحد العملاء، أو كان يرسم وحشا خياليا للأطفال، فإن أفكاره ومقدرته الفنية جاهزتان لتلبي.“
أما المقدمة الثانية فكتبها آرثر نفسه : ’’سعيد أنا حقا بوضع هذا الكتيب الصغير لهواة التسواد لأنني على الرغم من ممارستي للفنون والتصميم والهندسة المعمارية كمهنة تكسبت بها لسنوات عديدة إلا أنني رأيت نفسي ولا زلت أرى نفسي رساما في الأصل. كثيرا ما أدهش زملائي بعد العودة من يوم شاق في العمل بتكريس الليلة كاملة لرسم تسوادات منوعة. يسعدني أيضا أن أشارك معرفتي مع الهواة والطلبة. لقد كونت صداقات عديدة خلال رحلتي التعليمية.“
والجزئية التالية هي أكثر مايلفت النظر في المقدمة. لأنها انطبقت علي بشكل دقيق:
’’أنا صادق حينما أقول أنني أهدف إلى الوصول والترحيب بأناس جدد، أناس أستطيع الدردشة معهم عن هوايتي المفضلة. وإن انتفعوا شيئا من هذه الدردشة فسأكون سعيدا، وإن أنتجت رسومات جديدة فإنني سأكون بالغ الرضا. إن الفنون ليست أمرا معقدا أو غامضا كما يصور لكثير من الناس. ومع إن مرحلة التسواد التي يغطيها كتابي باستفاضة ليست بسيطة كل البساطة إلا أنها أقل صعوبة بكثير مما يفترضه البعض“
سأقاطعه قليلا لأقول بكل ثقة أنني بعد أن أنهيت الكتاب استفدت كثيرا من دردشات كوبتيل وأنتجت رسومات جديدة وصار عندي تصور أفضل للصعوبة/السهولة التي يتطلبها اكتساب مهارة الرسم. بل أنني صرت مثله أجد متعة في إيصال ومشاركة هذه المعرفة مع الآخرين. سأكتبها كسلسلة في قسم الفنون والرسم وسأضع عينة من أعمالي أيضا. لكن لنناقش أولا أهم فكرة يدفع بها المؤلف في هذا الكتاب وهو أن بوسع الجميع أن يرسموا.
بوسع الجميع أن يرسموا لأن الرسم تعبير طبيعي
’’بوسع كل إنسان طبيعي الذكاء أن يتعلم الرسم. إلى أي مستوى سيصل ياترى؟ من الصعب أن تقدر بدقة. لسنا كلنا متساوون في الموهبة والاستعداد الفطري. ربما لا تملك موهبة ريمباردنت . كم في البشرية من يملك موهبته؟ ولكنك حتما تملك القدرة على التمكن من الرسم تمكنا يجلب لك الكثير من المنفعة والمتعة، ليس ذلك فقط بل ستنتج أعمالا تستحق التقدير بكل جدارة. من أين لي بهذه الثقة؟ من واقع التجارب التي رأيتها بنفسي لكثير من الطلاب المتوسطين ينجحون فيما تحاول أنت[أيها القارئ] النجاح فيه. درست أصنافا من الناس. منهم الأطباء والمهندسون والطلاب صغار السن وحتى كبارهم. رأيت أن من ثابر منهم وأنفق الوقت والتدريب الكافي قد تمكن ونجح. وأما من تزعزعت ثقته في منتصف الطريق قد فشل. مع إن فشله يعزى لقلة الصبر وليس قلة المهارة.“ثم أورد مثالا للطفل حين يمسك بالقلم ويعبر عما في ذهنه بالرسم دون تعليم. بل حتى بعدما يتعلم الكتابة والقراءة يبقى يفضل الرسم كوسيلة للتعبير.
بوسع الجميع أن يرسموا مالم يجحفوا في المقارنات
مادمت لن أصبح مليارديرا فلن أمارس التجارة. هناك من ابتلي بهذا النوع من التفكير العجيب. مع أنه لو تأمل قليلا كم في البشرية من مليارديرات؟ هؤلاء قلة من البشر لهم ظروفهم وقدراتهم وتفرغهم شبه الأبدي لأعمالهم وصنائعهم. معظم الناس ليسوا كذلك. وقد يسعد الإنسان العادي بتجارته ويجلب المنافع والخيرات لنفسه ولغيره دون أن يبلغ مستويات فاحشة في الثراء. فلم التخلي عن كل هذه المحاسن بسبب التمسك بمعيار مجحف؟. هذا هو بالضبط منطق من يرفض اكتساب مهارة الرسم لأنه يقارن نفسه بعظماء المجال. يجمع أعمالهم الفنية ويتأملها ويقسم على نفسه أنه لن ييلغ تلك المستويات دون أن يضع في الحسبان الفروقات الشاسعة. معظم هواة الرسم إن لم يكن كلهم، مختصون في مجال لاعلاقة له بالفنون، فكيف يمكن للمقارنة أن تكون عادلة؟ المنطق يقتضي وضع أهداف معقولة، مع الاستنفاع من التطور المقدور عليه. ولا ينبغي للمرء أن يندم إلا على فرص أهدرها بيديه.
بوسع الجميع أن يرسموا طالما تمسكوا بالأسس السليمة
تطبيق التوجيهات التأسيسية بشكل سليم. فبناء القواعد لا يحتمل الاجتهادات ولا التجريب وعلى الطالب في مرحلة التأسيس تشرب القواعد بشكل راسخ ثم التدرج في تطوير أسلوبه الخاص. هذه الأساسات تشمل المنظور والأبعاد والإضاءة وتشريح جسم الإنسان ونحوها من المواضيع. إن من يحاول اختراع أساليب خاصة في الرسم قبل التمكن من هذه الأساسات لايختلف شيئا عمن يحاول حل التفاضل والتكامل قبل أن يحسن العد والجمع. كثيرا ما أرى رسومات مشوهة من حيث الأبعاد والأحجام، أو ظلال لا يستقيم اتجاهها مع الضوء أبدا وغيرها من الأخطاء التي تجعلك تتعجب. كيف يمكن لمحب صادق للرسم أن يمضي فيه لسنوات طويلة وهو لايزال يخفق في تمييز أبسط الأسس. وكأنها حالة من حالات الجهل الاختياري.
بوسع الجميع أن يرسموا لأن الرسم رهين الممارسة
قبل أن تبدأ رحلة تعلم الرسم يجب أن تخلي ذهنك من أي تصورات مضللة. لا طلاسم ولا ألغاز ولا عقد في طريق تعلم الرسم. إنما هو جملة من الإرشادات والتوجيهات التي ستمكنك من نقل ما في خيالك من صور. ولن تتمكن من هذه الإرشادات إلا بالتمرس. والممارسة مرحلة ممتعة جدا لاسيما عندما تتدرب على رسم أشياء تحبها. في بدايات تمريني كنت أرسم أشياء من غرفتي، كتبي، وطاولتي، ولوح الشطرنج، وقطة أختي الصغيرة، وبعض الشخصيات المفضلة. ستجد معظم المراجع توصيك بنفس الشيء. تعلم على أجسام بسيطة ثم مارس على ما تحب.
بوسع الجميع أن يرسموا في ظل أبسط وأوفر الأدوات
قلم رصاص، ورق، ممحاة، لوح خشبي، ألوان، كتب للتدريب، ماذا أيضا؟ ما الذي يصعب توفيره من أدوات الرسم؟
بوسع الجميع أن يرسموا لأنني شاهد على صدق العبارة
الرسم أحد أكثر الهوايات شيوعا في البشرية. لو كان الرسم ليس إلا لقلة مختارة من الناس لما فتحت له المعاهد وأقيمت الدروس وألفت الكتب وشجع الخبراء فيه الحدثاء. ولما تمكن الكثيرون بمن فيهم أنا من التقدم والتطور فيه. آرثر كوبتيل كان صادقا جدا عندما قال أن بوسع الجميع أن يرسموا. وكان دقيقا جدا عندما أتبع بـ متى ما أرادوا. لأن الإرادة جوهر كل شيء وهي ما يأخذ الإنسان إلى خط النهاية. البدايات للجميع والنهايات دائما للصادقين.
لا توجد تعليقات بعد.