من كان شيرلوك هولمز الحقيقي؟
السؤال ذو الإجابة المجتزة
هل كان المتحري شيرلوك هولمز شخصية حقيقية؟ لا إنه شخصية خيالية ألفها الكاتب البريطاني كونان دويل. وتقريبا هكذا يطرح السؤال وهكذا يرد عليه في كل مرة. ولكن لا، بالنسبة لعشاق هذا المتحري الداهية فإن هذه الإجابة غير مقبولة أبدا. شخصية شيرلوك حقيقية، نعم كان رجلا حقيقيا يتنفس، وكان يذهل الناس -بما فيهم دويل نفسه- بذكاءه الحاد ونباهته ودقة حكمه على الأشياء، كل ما في الأمر أنه كان يحمل اسما مختلفا. أجل الشخصية حقيقية إنما الاسم مصطنع. وقبل أن نتوسع أكثر عن هوية شيرلوك الحقيقي، لنتكلم أولا عن الظروف التي وضعته في طريق دويل مغيرة حياته إلى الأبد.
كونان دويل وأمنيته التي لم تتحقق
ولد كونان دويل في إنكلترا لعائلة متدينة وناجحة جدا. وفر له أبواه كل رعاية واهتمام. وكان أقرب إلى والدته -ماري دويل- التي كانت تحب المطالعة وتأليف القصص. ماري اهتمت بتعليم ابنها جدا و غرست فيه المبادئ الكاثوليكية النبيلة منذ الصغر. وكانت هي من شجعه على أن يختار الطب مهنة له. كبر كونان وبالفعل درس في كلية الطب بجامعة إدنبرة Edinburgh. ولكنه لم يجد شغفه في المجال الطبي. أرهقته المحاضرات الطبية الطويلة. وكان يتوق للخروج لممارسة هواياته المفضلة كرياضية الكريكت التي برع فيها و كتابة القصص الخيالية. كونان كثيرا ماتمنى أن يترك الطب كلية وأن يتفرغ بالكامل لكتابة القصص الخيالية خاصة النوع التاريخي. نعم لم يكن كونان يميل حتى إلى كتابة قصص التحري والغموض إلى أن التقى بالطبيب جوزيف بيل.
د.جوزيف بيل شيرلوك هولمز الحقيقي
في الجامعة التقى كونان بأستاذ عجيب وذائع الصيت يدعى جوزيف بيل. وكان ذو شخصية فارقة جدا تركت أثرها على كثير من الطلاب وليس كونان وحده. كان جوزيف يأخذ منحى مختلفا في تدريس الطب. منحى يشجع على تعزيز مهارات الملاحظة والرصد وتوظيفهما في الاستدلال على التشخيص السليم. لقد سحر الطلاب بمحاضراته كثيرا وأبهرتهم قدرته العجيبة على التشخيص والتي كانت تغنيه كثيرا عن إجراء الفحوصات الطويلة.
كتب أحد طلابه واصفا إياه:
لقد كان الطبيب جوزيف بيل رجلا نحيلا وشديدا ذو عينين رماديتين و أنف رفيع وذقن حادة. كان وجهه يوحي بالنباهة وقوة الإرادة. وكان في مشيته تعرج وكل من رآه استشعر هالته المظلمة التي تشد الانتباه. كان صوته جهورا ومجابها. كان باردا ومعدوم المشاعر مع المرضى ولكنه كان جراحا لامعا ومتمكنا. تخصص في التشخيص وبرع فيه حتى صارت قصصه كالأساطير التي يتداولها كل من عرفه.
وكذلك كتب عنه كونان دويل هذا الوصف:
الدكتور بيل كان يسأل مرضاه أسئله موجزة وقليلة جدا وفي كثير من الأحيان كانت تغنيه قدرته على التحليل عن الاستماع إلى إفادات المرضى كليا. فبنطرة واحدة كان يعرف مما يشكو المريض. ليس هذا فحسب بل كان يعطيهم تفاصيل عن مهنهم وحياتهم. كم تعجبنا لنظرته الثاقبة التي لا تخطئ.
د. جوزيف بيل كان يمارس الفراسة
كنت قد كتبت في تدوينة سابقة عن علم الفراسة. وكيف أنها كانت عند بعض الشعوب على اتصال وثيق بالطب. وكل ماقرأت أكثر في سيرة جوزيف بيل اتضح لي أنه من أولئك الذين وهبهم الله قدرا عاليا من الفراسة. فمما روي عن قصصه العجيبة أنه ذات مرة دخل عليه مريض. وبمجرد دخوله قال له
— ’’أنت خدمت في الجيش أليش كذلك؟“
— فأجابه الرجل متعجبا ’’بلى! صحيح“
— ’’وتركت الجيش ولكن ليس لمدة طويلة؟“
— ’’صحيح“
— ’’وقاعدتكم كانت في باربادوس؟“
— فصمت الرجل من التعجب.
— ’’أترون ياسادة“ شرح الطبيب لطلبته. ’’هذا الرجل مهذب وودود ولكنه لم يخلع قبعته حين دخل علي. وفي العسكرية البريطانية لا ترفع القبعات كتعبير عن التحية. ولو كان قد انصرف منها لمدة طويلة لكان تعلم أساليب المدنيين في إلقاء التحايا. أما شكواه فهي داء الفيل ومصدره الهند الغربية وليس انكلترا“.
من هذه الرواية ومثيلاتها يتضح أن جوزيف بيل كان يمارس الفراسة. يرصد العلامات الظاهرة ويستبنط منها البواطن عن طريق الاستشفاف الاستنتاجي والاستقرائي. وكل من شهده تعجب من قدرته إلى أن يشرح كيف وصل إليها. حينها يخف تعجبهم ويستاؤون من أنهم أغفلوا تلك العلامات. وقد ذكرنا سابقا أيضا التدوينة أنه بعد التكشف تكون المِراسة وليس الفراسة. وهذا يكون حال معظم البشر ممن يطبق المعرفة المستقاة من العلوم الجنائية أو الطب التشخيصي أو غيرها من الفروع التي للفراسة فيها دور كبير. إذ يعد هؤلاء ممارسون لا متفرسون طالما يطبقون ما تكشف لهم عن غيرهم أو تراكم كخبرة بشرية.
كيف جيء بتسمية شيرلوك هولمز؟
قلنا أن كونان دويل كان يحب رياضة الكريكت وكان يتابع لاعبا بريطانيا شهيرا آنذاك اسمه فرانك شاكلوك. ويقال أنه حور اسمه تحويرا خفيفا من شاكلوك إلى شيرلوك. أما اللقب فيعود أيضا إلى رجل أحبه السيد دويل وهو أوليفر وندل هولمز، أيقونة في التاريخ الأميركي، طبيب، وكاتب وشاعر.
ولادة أعظم متحر في التاريخ
كونان دويل، وجوزيف بيل، وفرانك شاكلوك، وويندل هولمز كانوا وراء ولادة شخصية شيرلوك هولمز. إن من يقرأ الصفحات الأولى من رواية شيرلوك يمر على حواراته مع الطبيب واتسون سيرى ويسمع دكتور جوزيف يتكلم:
— ’’كيف حالك؟ لقد خدمت في أفغانستان، أليس كذلك“
— ’’صحيح ولكن كيف عرفت؟“
دويل لم يعط شيرلوك فراسة الطبيب جوزيف فحسب بل غرابة أطواره، وبعده عن الناس وبرودة مشاعره. إنني أشعر بأن من لا يعرف شيرلوك الحقيقي يفوت على نفسه الكثير، فكيف بمن لم يقرأ السلسلة بتاتا؟
شيرلوك هولمز الحقيقي
لقد أحب القراء شيرلوك هولمز وذاع صيته كما أحب الطلاب جوزيف بيل وذاع صيته. ولكن شيرلوك هولمز فاق جوزيف بيل شهرة مع إنهما هوية واحدة. قد لا تعرف من هو جوزيف بيل لكن من لا يعرف من هو شيرلوك هولمز؟ إنه رمز من الرموز التي يتباهى بها البريطانيون في ميراثهم الأدبي إلى العالم. ومن يعرف البريطانيين عن قرب يعرف أنهم لا يتباهون بالشيء الهين. إن اختراع هذه الشخصية العجيبة ونسج مغامراتها الأكثر عجباً أكسبت كونان دويل مكانته على عرش روايات التحري والغموض بكل استحقاق حتى ترك الطب وتفرغ كليا للسلسلة. في مدونتي هذه أنا أيضا سأفرغ الكثير من المقالات للحديث عن شيرلوك هولمز فكن على انتظار.
لا توجد تعليقات بعد.